هل ينجح الحصار الاقتصادي ضد روسيا ؟

كتب وليد عبد الحي

يبدو أن الحرب في اوكرانيا تدور على أربعة محاور، أولها المحور العسكري والذي تبدو فيه الكفة الروسية هي الراجحة رغم تدفق السلاح على أوكرانيا من الدول الغربية، فالبنية التحتية للمؤسسة العسكرية الأوكرانية أصبحت في معظمها اطلالا، كما أن روسيا ضيقت من أهدافها العسكرية باتجاه التركيز على ثلاث جبهات هي الشرق وتأمين جمهوريتي إقليم دونباس أولا ثم تأمين السيطرة على القرم وهو قائم قبل الحرب ثانيا ثم تحويل أوكرانيا إلى دولة حبيسة أو شبه حبيسة من خلال السيطرة على كل منافذها البحرية ثالثا. وفي تقديرنا أن هذا المحور هو الأقل استغراقا زمنيا (شهر ونصف تقريبا) بين المحاور الاربعة الأخرى.

أما المحور الثاني، وهو المحور السياسي، فتبدو المكانة الروسية فيه تهتز بقوة، فقرارات الامم المتحدة والعزل من عضوية لجنة حقوق الانسان الاممية يشير الى نسب تصويت متدنية لصالح روسيا،وهو مؤشر سلبي للسياسة الروسية يصل الى حد الهزيمة التي قد يكون لافروف هو الاكثر احساسا بها، وسيبقى العمر الزمني لهذا المحور لسنين للخروج من مأزقه.

اما محورها الثالث فهو المحور الاعلامي، والذي تبدو فيه وسائل الاعلام الروسية باهتة وغير قادرة على مواجهة الفيضان الاعلامي الغربي والخليجي العربي ، لكن اثر هذا المحور هو الاقل اهمية قياسا للمحاور الاخرى وسيتوارى تدريجيا وبقدر نسبي مع جهود الوساطة والوصول الى اتفاق بين المتنازعين.

المحور الرابع:المحور الاقتصادي متمثلا في الحصار الاقتصادي، وهو محور مهم ويعول عليه الغربيون لتعزيز مكاسبهم في كل من المحور الثاني والثالث(سياسيا واعلاميا)، وهو ما سأتوقف عند تفصيلاته لا سيما انه سيكون له تأثير استراتيجي طويل الامد.

اهداف الحصار وشموليته:

تتمثل اهداف الحصار الاقتصادي الغربي في اضعاف الامداد السوقي(Logistic ) والقدرة على الانفاق على الحرب من ناحية ، وخلق من ناحية ثانية حالة من “عدم شرعية النظام الروسي وتكريس هذه الحالة اقليميا(اوروبا تحديدا) ودوليا(عبر الهيئات الدولية)ومحليا عبر توسيع الفجوة بين المجتمع والحكومة الروسية بسبب آثار الحصار على المجتمع الروسي ونخبته لا سيما الاقتصادية منها.

ولتحقيق هذين الهدفين اشتمل الحصار على :

1- تجميد ودائع البنك المركزي الروسي بشكل لا يجعله قادرا على استخدام هذه الودائع بالدولار

2- منع التعامل مع البنك المركزي ووزارة المالية والصناديق المالية الروسية من قبل الاشخاص او المؤسسات التجارية

3- اخراج روسيا من نظام swift لتحويل الاموال بين البنوك.

4-الخفض التدريجي لاستيراد الغاز والبترول من روسيا

5- تجميد ودائع شخصيات روسية

6- منع توريد بعض انماط من السلع التكنولوجية بخاصة ذات الاستعمال المزدوج(عسكري/مدني) وسلع اخرى

7- تجميد المانيا مشروع انابيب غاز الشمال وقيمته عشرة مليارات دولار

8- اغلاق الاجواء الاوروبية في وجه الطيران الروسي ومنع بيعها قطع الغيار للطائرات

9- تجميد ودائع او فرض قيود على التعامل مع بعض القيادات الروسية او النخب العامة.

الآثار الاولى للحصار:

تتمثل الآثار الاولى للحصار في المظاهر الاقتصادية الاكثر وضوحا حتى الآن:

1- انخفاض العائدات التجارية

2- تذبذب سعر الروبل بانخفاض بلغ من 76 روبل للدولار قبل العملية العسكرية بايام الى 143 روبل بعد اسبوعين من العملية .

3- ارتفاع نسبة التضخم لتصل (9%) وصعوبة مواجهته في ظل القيود على البنك المركزي الروسي.

ثقوب في جدار الحصار:

عند تقييم اثر الحصار على روسيا اقتصاديا يجب الاقرار ان الضرر امر لا يمكن انكاره، لكن الروس لم يؤخذوا على حين غرة، بل استعدوا للمعركة الاقتصادية وهو ما تؤكده المعطيات التالية:

أولا: تشير مؤسسات رصد ابعاد الحصار الاقتصادي على روسيا انه يضم (5581) بندا اي بزيادة عن بنود الحصار قبل العمليات العسكرية (في 24 فبراير الماضي) والتي كانت 2754 بندا وازدادت 2827 بندا أي اكثر من 100%. لكن كل هذه الابعاد بدت وكأن الروس توقعوها مسبقا مستفيدين من تجربة العقوبات عليهم بخاصة عام 2014 اثر ازمة جزر القرم الى جانب تجارب الحصار الاخرى على عدد من الدول، وهم يدركون أن 34% فقط هي نسبة نجاح الحصار في تحقيق اهدافه منذ 1950 وفي 188 حالة .

ولعل الدول التي تتعرض حاليا لحصار تقدم نموذجا على مستويات الفشل في تحقيق الحصار اهدافه الاستراتيجية ،فالى جانب روسيا التي يشمل الحصار عليها (5581) بندا هناك ايران (3616) بندا وسوريا(2608) بندا وكوريا الشمالية(2077) بندا وفنزويلا(651) بندا وميانمار(510) بندا وكوبا(208) بندا ، لكن السؤال الاهم هو كم من هذه الدول غيرت من سياساتها الاستراتيجية بسبب هذه الآلاف من بنود الحصار.؟ ويكفي ان نتوقف امام النموذج الايراني، فايران تمكنت من الصمود في وجه الحصار المماثل تقريبا رغم الفارق في الامكانيات مع روسيا، وقبل بدء العمليات العسكرية في اوكرانيا كان عدد بنود الحصار ضد ايران يفوق عدد بنود الحصار على روسيا بسبب موضوع القرم بحوالي 862 بندا، ورغم حجم العقوبات وطول مدتها تشبث الايرانيون بمواقفهم.

ثانيا: من ثقوب العقوبات الغربية على روسيا هو استثناء المدفوعات من الخارج التي تغطي قطاع الطاقة من غاز او بترول، فعدم شمول قطاع النفط والغاز بالحصار خوفا على الاوضاع في اوروبا بخاصة المانيا وبولندا وايطاليا وغيرها ، فان تأثير نظام swift سيبقى هامشيا طالما ان هذا القطاع الحيوي معفى من الحصار على مدفوعاته ، والى ان يتمكن الاوروبيون من تطوير تكنولوجيا او بدائل للطاقة الروسية فان الامر غير متيقن منه وقد يطول رغم القرار بتخفيض الاعتماد الى الثلث مع نهاية 2022 والوصول الى الاستقلال الطاقوي عن روسيا-اذا امكن- مع عام 2030.

ثالثا: موضوع إحتياطيات النقد في البنك المركزي الروسي: وهذه تستحق الاشارة في موضوعها لجوانب ثلاثة هي :

أ‌- أن حجم الاحياطيات النقدية الروسية تزايد ليصل حاليا الى حوالي 630 مليار دولار وبفارق كبير عن الوضع عام 2014، مما يعني أن الآثار التي عاناها الاقتصاد الروسي في هذا الجانب اصبحت اقل قسوة وبقدر كبير عن مرحلة عقوبات معركة جزر القرم بخاصة بعد تعافي الروبل الى قيمته تقريبا قبل بداية العملية العسكرية .

ب‌- إن جزء معينا من هذه الاحتياطيات هو بالذهب والبعض بعملات غير الدولار.

ت‌- معلوم أن روسيا بدأت منذ 2014 بتقليص احتياطياتها النقدية في بعض الدول التي تتوجس منها وتحويل هذه الاحتياطيات لدول اخرى اكثر اطمئنانا لها، فمثلا خلال الفترة من 2014 الى 2021 حركت احتياطياتها بحيث خفضتها في الولايات المتحدة من 32% الى حوالي 8% وفي فرنسا من 33 % الى 17%،وفي المانيا من 18 الى 13، وزادت من هذه الاحتياطيات في الصين بمعدل 17% وفي المنظمات الدولية 4% وفي بقية الدول الاخرى غير الغربية بحوالي 11%وهي نفس النسبة في اليابان ايضا،وهو ما يجعل الضرر يتقلص بنفس نسبة الانتقال للاحتياطي..

رابعا: إن الشركات التي اعلنت انسحابها او تجميد نشاطاتها بخاصة في القطاع الاكثر اهمية وهو النفط (مثل شركات BP- Shell- Equinor -Exxon Mobil) او الشركات المالية مثل (Visa and Mastercard )ناهيك عن شركات عملاقة اخرى (مثل Apple, Airbnb, Boeing, Google, Microsoft, Netflix, Paypal PwC, Spotify and TikTok…الخ.) تواجه المخاطر في احتمال تاميم موجودات هذه الشركات في روسيا، وهو امر ناقشته اللجنة الاقتصادية في الدوما الروسي، وفي حالة حدوثة سيتم التعويض عن بعض الخسائر من اصول هذه الشركات.

خامسا: إن نسبة الديون الروسية الى اجمالي الناتج المحلي الروسي هي 18% وهى الافضل بين أغلب الدول الصناعية تقريبا، مما يجعل اعباء الوفاء بفوائد ديونها اقل ثقلا.

سادسا: تزايد استخدام روسيا لبطاقات الدفع مثل MIR والتحول نحو نظام تحويلات وضعته مثل SPFS ، مما يقلص من وطأة اخراجهم من نظام Swift

سابعا: تشير الخبرة التاريخية الروسية لعامي 2008 و 2014 أنه في أزمة شبه جزيرة القرم عام 2014 ، أدت العقوبات إلى منع البنوك الغربية من تمويل عمليات كبيرة قبل التصدير للتجار الروس في السلع الأساسية مثل روسنفت وغازبروم نفت. ومع ذلك ، وجدت هذه البنوك طريقة للتغلب على ذلك من خلال توفير صفقات “الدفع المسبق” الكبيرة لتجار السلع مثل جلينكور وفيتول ، الذين قاموا بعد ذلك بإقراض الأموال في قطاع السلع الأساسية الروسي،أي ان الامر اخذ طابع الطريق الالتفافي.

ثامنا: منذ أزمة القرم اخذ اغلب التجار الروس يحتفظوا بمداخليهم من الدولار داخل روسيا توقعا منهم باحتمالات التضييق على حصولهم على الدولار في مرحلة لاحقة ،وهو ما نشاهده الآن.

تاسعا: عند التدقيق في الجهات الروسية المستهدفة من الحصار نجد ان عددها هو 2819 جهة منهم 2453 فردا مقابل 366 مؤسسة او شركة، مما يعني ان ثقل الحصار هو على الافراد اكثر منه على هياكل الانتاج الى حد معين.

عاشرا: ان نسبة مساهمة صادرات الغاز الروسي في اجمالي دخل الموازنة الروسية هو 13% ، مع ضرورة التنبه الى ان الاعتماد الاوروبي على روسيا في قطاع الطاقة ككل يبلغ حوالي 47% من الفحم و 41% من الغاز و 27% من النفط، فاذا علمنا ان واردات اوروبا من الغاز هو 400 مليار مترمكعب، وان معدل الواردات من روسيا هو حوالي 180 مليار متر مكعب ، فهذا يعني ان على اوروبا ان تجد مصادر بديلة لتوفير 180 مليار متر مكعب ، وهو امر غير ممكن حتى في حالة تخفيض الاستهلاك بنسبة عالية وزيادة الواردات من الغاز المسال(الميثان) وقدرة المنتجين الآخرين على التعويض النسبي ، وهي كلها امور يصعب تحقيقها بشكل كبير. ورغم ان النفط يمثل 25% تقريبا من الدخل الروسي ،فان القدرة الاوروبية على الضغط على روسيا هي اعلى بشكل كبير من القدرة على الضغط من خلال الغاز، لكن حظر استيراد النفط الروسي سيتسبب في ارتفاع الاسعار للنفط بشكل يجعل بعض الدول غير الاوروبية تعمل على افشال هذا المسعى( مثل الهند اوالصين) نظرا للتكلفة العالية التي ستترتب على هذا الحصار،ناهيك عن الالتزامات بين دول الاوبك مع اوبك +(وروسيا ابرزهم).

احد عشر: استحدثت روسيا بطاقات دفع بديلة للفيزا وغيرها ، وهي الان تغطي حوالي 30% من بطاقات الدفع في روسيا، وهو امر لا يحل المشكلة لكنه يخففها.

ماذا يعني ذلك؟

أن انتظار تغير السياسة الروسية في اوكرانيا هو امرمستبعد بقدر كبيرإذا استند هذا الانتظار الى تاثيرات الحصار الاقتصادي على روسيا، وهو ما سيدفع الى توجهات دولية قد تنطوي على تحولات جيوسياسية اولا تليها تحولات جيواستراتيجية..ربما.





زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق