“الكرامة” ثأر لـ “النكسة”.. معركة جددت الأمل في الروح العربية المنكسرة

هلا أخبار – يستبسل الجيش العربي، فتزهو الصورة، ومن عين المكان يتجلى المعنى، في الكرامة كان وإلى الكرامة صرنا، بعد أن أثخنت هذه الأمة هزيمة لم يمض عليها عدة أشهر، فبعثت هذه الكرامة: المكان والحدث، الآمال مجددا في الروح المنكسرة، فصارت الكرامة تاريخنا ومستقبلنا.

فقد كانت بلدة الكرامة، التي تتأبط الغور، تقف للغزاة بالمرصاد قبل 54 عاما، مسجّلة نصراً مدويا للجندي الأردني ولبلاده التي أخذت على عاتقها ردّ اعتبار الأُمّة من المحيط إلى الخليج.

ففي سماء فلسطين والأردن تجمعت نذر الحرب التي خططت لها إسرائيل لتكون حربا خاطفة، لكن الجيش العربي أفشل كيد الجيش العدو “الذي لايقهر”، وألحق به هزيمة نكراء، ما كانت تخطر لقادته ومخططيه العسكريين على بال.

فالعقيد المتقاعد، الدكتور ماهر مخامرة، يستهل حديثه لمناسبة نصر الكرامة التي تصادف يوم غد الاثنين، بالتوقف عند معاني مفهوم كرامة الإنسان الفرد والشعب والأمة، وبوصفها صفة ملازمة للإنسان والشعب الذي يستمد من تاريخه وقيمه العربية الخالدة مقومات النصر والصمود والذود عن الوطن والكرامة.

ويضيف مخامرة أن كرامة الشعب تعني احترامه لذاته، وهو شعور مفعم بالقيم التي تجعله ينتفض لكل مساس بها من أي طرف كان، فما بالك اذا كان هذا الطرف هو المحتل الذي انقض على فلسطين بليل بهيم وأراد أن يلحق الأردن بمشروعه التوسعي.

ويستذكر مخامرة سيرة المعارك التي خسرها العرب أمام الاحتلال الإسرائيلي في حربي 48 و67 والخسائر العربية التي كانت دافعا للجندية الأردنية وقيادتها الهاشمية الباسلة، لإعادة الوهج لمفهوم الكرامة العربية، وهو ما تحقق على أرض بلدة الكرامة الاردنية التي ردت للعرب ما انتقص من قدرهم واحترامهم لذاتهم، وأعادت لهم الأمل بإنجاز النصر وتعزيز مفهوم الكرامة بعد سلسلة طويلة من الهزائم على ثرى فلسطين.

ويؤكد العقيد الركن المتقاعد الدكتور عامر العورتاني ما جاء به المخامرة، قائلا: “يحلُّ يوم الحادي والعشرين من آذار مُحمّلاً بمشاعر الاعتزاز بذلك اليوم الذي توشّح باسم مكان المعركة، وإرادة الرجال، فغدت الكرامة عنواناً فارقاً على صفحات التاريخ”.

ويشير إلى أن أهداف المعركة كانت تتلخص في القضاء على الجيش العربي الأردني قبل أن يتمكن من حشد قوته جيداً بعد حرب حزيران، وتحطيم الروح المعنوية بين صفوف قواته، وزعزعة الثقة على صعيد الجبهة الداخلية للأردن، إضافة إلى احتلال المرتفعات الشرقية لغور الأردن باعتبارها منطقة تعبوية واستراتيجية واقتصادية مهمّة، فضلاً عن ضرب قوّة المقاومة العربية المتمركزة في بلدة الكرامة، واحتلال مزيد من الأراضي، لفرض سياسة الأمر الواقع والمساومة عليها، وبالتالي ضمان الهدوء والأمن على طول خطّ وقف إطلاق النار مع الأردن.

ويلفت العورتاني إلى أن الجيش العربي بدأ القتال في معركة الكرامة من اللحظة الأولى لتقدم قوات العدوّ، إذ أمر اللواء مشهور حديثه بفتح النار المدمرة على حشود العدوّ بمجرد أن أبلغه الركن المناوب بأنّ العدوّ يحاول اجتياز جسر الملك حسين، وهو ما أكسب الجيش العربي عنصر المفاجأة عند بدء الهجوم، ولعب سلاحا الدروع والمدفعية الملكي وقناصو الدروع دوراً كبيراً على طول الجبهة، لا سيما على جسور العبور؛ مما ساهم في منع الجيش الإسرائيلي من دفع أية قوات جديدة لإسناد هجومه، وأدى لإرباك القوات المهاجمة في ظلّ استبسال القوات الأردنية ومقاومتها الشديدة.

فالمعركة بالنسبة إلى الجيش العربي الأردني معركة وجود، فإما الحياة أو الموت، وهو ما ظهر جلياً في إصرار جلالة المغفور له بإذن الله، الملك الحسين بن طلال، طيب الله ثراه، على (عدم وقف إطلاق النار طالما أنّ هناك جندياً اسرائيلياً واحداً شرقي النهر)، ما يعني أنّ مجريات المعركة وضعت زمام الأمر كله في يدّ القوات الأردنية، الأمر الذي دفع بإسرائيل لطلب وقف إطلاق النار بعد 5 ساعات فقط من بدء المعركة، وفقا للعورتاني.

ويردف قائلا:”مع انتهاء أحداث القتال، فإنّ العدو كان قد فشل تماماً في هذه العملية العسكرية، ولم يحقق أياً من أهدافها، فعاد مدحوراً وخلّف وراءه قتلاه وجرحاه، والعديد من الآليات المدمرة، ليثبت الجندي الأردني للعدو بأن روحه القتالية نابعة من التصميم على خوض معارك البطولة والكرامة”، فقد أطلّ جلالة المغفور له بإذن الله، الملك الحسين بن طلال، طيب الله ثراه، في اليوم التالي للمعركة في كلمته التاريخية قائلاً: “وإذا كان لي أن أشير إلى شيء من الدروس المستفادة من هذه المعركة يا إخوتي، فإنّ الصلف والغرور يؤديان إلى الهزيمة، وإنّ الإيمان بالله والتصميم على الثبات مهما كانت التضحية؛ هما الطريق الأول إلى النصر، وأنّ الاعتماد على النفس أولاً وأخيراً، ووضوح الغاية ونبل الهدف هي التي منحتنا الراحة حين تقرر أننا ثابتون صامدون حتى الموت، مصممون على ذلك لا نتزحزح ولا نتراجع مهما كانت التحديات والصعاب “.

ويؤكد أن معركة الكرامة كانت نقطة تحول في تاريخ الأمة العربية الحديث، وفي تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، فعلى الصعيد العسكري لم يخض العدو بعد ذلك أية معركة بالقوات الأرضية، لتقتصر معاركه على القصف الجويّ والمدفعيّ، واستخدام القوات المحمولة جوّاً بعد إنزالها في المناطق النائية والمعزولة، وتدمير جسور الإمداد.

أما على الصعيد السياسي، فيبين أن إسرائيل خسرت خسارة كبيرة ووصم سلوكها بـ”العدوان”، إذ تحوّل قسم كبير من الرأي العام لصالح الموقف العربي، كما أنّ موجات من السخط والتذمر ظهرت في إسرائيل على المستويين الرسمي والشعبي، فالخسارة لم تكن معنوية فقط، حيث قدرت خسائر إسرائيل الاقتصادية بالملايين؛ إذ استخدمت في هذه المعركة أسلحة تعادل فرقة، إضافة إلى الدروع والمدفعية والمشاة، وعدد هائل من الطلعات الجوية التي كلفت نفقات باهظة، وكانت النتيجة على أرض المعركة صفراً من الأهداف.

أما على الصعيد النفسي، فيشير إلى أن العدو فشل في تحقيق هدفه بتحطيم إرادة الجيش والشعب الأردني، بل إنّ النتيجة جاءت معاكسة تماماً فقد ارتفعت الروح المعنوية لديهما، كما أن هذه الروح ضمت في نفحاتها سائر الشعوب العربية، وهي ترى هزيمة الجيش الأسطورة وحطام خيبته على أرض بلدة الكرامة في غور الأردن.

ويقول العورتاني ان ردة الفعل العربية والعالمية كانت بحجم الحدث؛ فقد قيّمت الديلي تلغراف الموقف باتضاح أمرين في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على الكرامة، أولهما أنّ الإسرائيليين أخطأوا في حساباتهم خطأ فادحاً، إذ أنهم واجهوا مقاومة أعنف مما كانوا يتوقعون، والثاني أنّ هجومهم على الكرامة لم يحقق شيئاً.

ويستكمل العورتاني: “لقد كانت المعركة في البلدة الصغيرة معركة بين الحق والباطل، فكان النصر فيها عنواناً حمل اسم الكرامة، كرامة الجيش والشعب والأمة، لتبقى الذكرى مختزنة في قلب الوطن، وجزءاً من إرثها العظيم المنسجم مع هويته ورسالته القومية، وتشكل معانيها نبراساً تستنير به الأجيال القادمة من أبناء هذا الوطن، لتتخذ من الذكرى فرصة لترسيخ قيم الإيمان، وبذل الجهد الدؤوب، واعتماد التنظيم وحُسن التخطيط وسيلة لبلوغ المُنى”.

وفي الذكرى تعاودنا أسماء وصورا لمن خضبوا بدمائهم ثرى الأردن الطاهر، فلهم علينا الحق بالإجلال والإكبار، وهم الرموز التي ينبغي للنشء أن يستشعر أطيافهم في نعمة الأمن التي نحيا، وفقا للعورتاني.

من جهته، يسرد المحلل السياسي والعسكري، الدكتور غازي الربابعة، وقائع المعركة قائلا: “تابعت هذه المعركة بدقائقها حين كنت ضابط استخبارات في كتيبة الحسين في أم قيس، فكانت توضع المعلومات أولا بأول منذ بدء هذه المعركة فجر يوم 21 آذار من العام 1968 وحتى الساعة الثامنة من مساء ذلك اليوم، ومنذ الصباح كانت المعنويات عالية وكان الإسرائيليون يعتقدون، أنها ستكون معركة بسيطة، إذ أن وزير الحرب موشيه دايان اصطحب وفدا من الصحفيين إلى مدينة أريحا، وأبلغهم أنه سوف يتناول طعام الغداء في جبال السلط، حيث كان مزهوا بالنصر الذي تحقق في حزيرن 1967، ولذا كان يعتقد أنه سيحقق نصرا مماثلا، لكن النصر العربي الاردني خيّب وعودهم المريضة”.

ويذكر الربابعة أن الإسرائيليين قاموا قبل المعركة بعملية خداع فطنت لها الاستخبارات العسكرية في منطقة العدسية وأم قيس، اذ لجأوا إلى قياس عمق الماء في نهر اليرموك على مرأى من مراقبة الجيش العربي حتى يوهموهم بأن المعركة ستقع في الشمال، ولكن الاستخبارات الأردنية كانت على علم كامل بموعد المعركة ومكانها وعدد القوات المهاجمة، لافتا إلى أن المعلومات الاستخبارية كان لها الدور الحاسم في المعركة.

ويشير إلى أنه بالرغم من عدم امتلاك الأردن في ذلك الوقت طائرة قتالية واحدة؛ لأن سلاحه الجوي كان قد دمر في حزيران 1967، إلا أنه انتصر في هذه المعركة، بحسب الربابعة.

ويوضح في ذلك أن المعركة أثبتت أن إرادة القتال والجغرافيا يلعبان دورا في النصر، اذ اجتمعت لدى الأردن وجيشه جغرافية جبال السلط وعقيدة القتال التي توطدت في نفوس أبناء الجيش العربي، وهم الذين تلقوا تربية روحية وإيمانية في وحداتهم، جعلتهم يقاتلون بإيمان منقطع النظير، مما أدى الى تحقيق النصر.

ويلفت الربابعة الى ان معركة الكرامة كانت محل افتخار على المستويات الوطنية العربية والدولية، فضلا عن أن مواقف الدول العربية اعتبرت ان هذا النصر هو نصر للعرب الذين استردوا به كرامتهم بعد هزيمة.

ويستكمل حديثه قائلا:” علينا أن نسجل هنا أن إسرائيل دخلت الكرامة بذريعة أنها تريد استئصال المقاومة الفلسطينية التي كان مقر قياداتها في بلدة الكرامة، فاعتقدت أنها ستحدث شرخا بين الفلسطينيين والأردنيين، وألقت منشورات بواسطة الطائرات، تخاطب أبناء الجيش: أننا لم نأت لنقاتلكم، ولكن جئنا لنقاتل المخربين، ويقصد بذلك رجال المقاومة الفلسطينية، لكن الدم الأردني والفلسطيني التحما وقاتلا صفا واحدا في مواجهة العدو، مما أدى إلى هزيمته”.

أمّا المؤرخ المفكر الدكتور بكر خازر المجالي فيستعيد الأجواء النفسية السائدة في الوطن العربي غداة هزيمة حزيران 1967، لافتا الى أن نصر الكرامة بدّد هذا الوهم الذي غذته اسرائيل وأذرعها الإعلامية في أوساط المجتمعاتِ العربية، إذ بدا الجندي العربي الأردني كطائر العنقاء في خروجه من الرماد، لينفض عن روح الأمة ووعيها ما علق بها من أوهام وترهات ارادتها إسرائيل حالة أبدية للعرب في طول أرضهم وعرضها وهو ما أخفقت به بفعل نصر الكرامة الخالدة.

ويلفت إلى أن فعل النصر الأردني في الكرامة كان استثناء، إذا ما عرفنا حال الجيش العربي بعد نكسة حزيران، الأمر الذي يؤكد أن التفاف الشعب والجيش حول القيادة الهاشمية الفذة صنع المستحيل الذي لم تصدق إسرائيل أنه كان سيتحقق على أرض الأردن.

ذلك أن الجيش العربي كان في خضم إعادة بناء الذات في ظروف معقدة وصعبة، وقد قاتل الجيش ببسالة لا نظير لها على الرغم من شح الإمكانات وتوفر السلاح، الأمر الذي يؤكد إعجازية الفعل البطولي على أرض المعركة الخالدة، وهو ما شهد به قادة العدو أنفسهم، وفقا للمجالي. (بترا)





زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق